” بلاد العجائب - فنانون إسرائيلييون وفلسطينييون - الصراع السياسي في الفن“ هو عنوان المعرض الذي أقيم في العاصمة الألمانية برلين بين شهري كانون الثاني ونيسان الماضيين في صالات مختلفة، قبل أن ينتقل إلى البرلمان الأوربي في العاصمة البلجيكية بروكسل ومنه إلى مدن أوربية أخرى. يشارك في المعرض خمسة وثلاثون فناناً وفنانة إسرائيليين وفلسطينيين، من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 67 و 48 أضافة إلى مشاركة شاعر إسرائيلي وكاتب فلسطيني.
صاحبت المعرض الدعاية وصخب أهل السياسة، من الألمان والإسرائيليين أعضاء في البرلمان الألماني عن حزب اليسار وبلدية حيفا، التي كان المعرض قد بدأ محطته الأولى فيها في تموز 2012، تلتها برلين ومن ثم المحطات الأخرى التي أنف ذكرها. وتثير رعاية مؤسسات إسرائيلية وألمانية سياسية للمعرض بعض الأسئلة من حيث جعل الأعمال رهينة لسياسات وخطابات هذه المؤسسات.
علاقة الفن بالسياسة
إن الفنان (المبدع) الفلسطيني، وبالتحديد أولئك الذين يعيشون في فلسطين، كالقابض على الجمر. فهو بين نار انقطاعه عن جزء من محيطه الجغرافي العربي والأوسطي، ونار الوقوع في فخ المساومة أو النبذ الكامل الآخر. وبين كل هذه الاستقطابات عليه أن يصمد ويجد طريقه الخاص وغالباً دون مساعدات خارجية ورعاية إلا من بعض المؤسسات الخاصة التي لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة.
ومن جهة أخرى فهو أمام جرّافة، المؤسسات الرسمية الإسرائيلية، التي لا تتوقف عن التحرك ونبش وهدم ما تبقى من الذاكرة ومسخها. فالصراع ليس فقط على أرض تلتهم من تحت من تبقى من أصحابها بل هو وبالدرجة الأولى تكملة لصراع على الذاكرة والرواية. وبما أن المؤسسة الإسرائيلية بكل جبروتها لم تتمكن حتى الأن من طمس هذا الروايات كما هدمت القرى والأحياء والمباني فهي تحاول أن تحتوي هذه الذاكرة أو أن ”تمسخها“. فعملية المسخ هذه تكون عندما تتساوى رواية المحتل والمحتل. إنها عملية قضم للذاكرة باسم ”التعايش“ و”الحوار“ بل سيطرة مجموعة على آخرى.
ولأن هذا الخطاب أذكى من أن يكون يمينياً يكشر عن أنيابه بفظاظة فهو يأتي بصيغة تستخدم فيها طريقة الجزرة والعصا. إنه مبدأ اغراقنا بوهم ما يسمى ”بتعدد الروايات“، فيأتي لقاء الفنانيين الفلسطينيين والإسرائيليين ليساوي بين الروايات والذاكرات المختلفة عن نفس المكان في خطاب مألوف، فيضبب الحدود والفروق بين ضحايا التاريخ وجلاديه.
سياق العمل الفني
أفتتح المعرض في برلين في قاعة حزب اليسار ”Die Linke“ في البونديس تاغ بوجود أسماء سياسية معروفة في ألمانيا مثل غريغور غايسي، رئيس كتلة اليسار في البرلمان الألماني، وكذلك المسؤول الثقافي لسفارة فلسطين في برلين، وموفد السفارة الإسرائيلية. إذاً المباركة الفلسطينية الرسمية موجودة، كي تدعم ”التعايش“ وتثبت أنها ليست ”ارهابية“ بل إنها “ديمقراطية“ ومع ”السلام“ وتنسى شيئاً اسمه الاحتلال. وفي كتيب أنيق الطبع، وزع مجاناً على الحضور، تزاحم القائمون والمنظمون للمعرض ليضع كل كلماته عن التعايش والسلام و“البلاد الرائعة“ و“البلاد العجيبة“ وما إلى ذلك من أوصاف عن فلسطين عامة وعن مدن مثل حيفا خاصة، التي قدمت على أنها مثال ”للتفاهم والتعايش“. وعندما قرأت هذه النصوص بدا لي وكأن الحديث يدور عن بلد لا أعرفه يشبه ذلك المكان الذي عشت فيه لأكثر من عقدين، وبدا وكأن كل ما ينقص ذلك البلد "الرائع" و"المدهش" هو إنصاف إعلامي وقيادات حكيمة لأن ”الصراع“ هو ”سوء تفاهم“ ليس أكثر. يحتوي الكتيب المرفق على أكثر من مئة صفحة أغلبها صور ملونة جميلة للأعمال الفنية المختلفة التي احتوى عليها المعرض.اللغات المستخدمة في الكتيب هي الألمانية والعبرية والعربية والإنجليزية والروسية. وأبرز المؤسسات الداعمة والممولة لهذا المشروع هي: بلدية حيفا، وبيت الكرمة، المركز العربي اليهودي، رابطة الفنانيين والنحاتين الإسرائيلين، جمعية ”مورشتينو“، والإتحاد الأوربي، ومؤسسة روزا لوكسبمورغ المدعومة من ”حزب اليسار“ الألماني.
تغييب الفلسطيني عن الرواية
تحاول ثلاث مقالات مرفقة بالكتيب وضع هذه الأعمال والمعرض المتنقل في سياق معين، لكن ولا واحد من كتابها فلسطيني! وهكذا يخلق المموّل الإسرائيلي السياق الذي ستقرأ ضمنه هذه الأعمال وهو الذي يروي الحكاية الكبرى. وهكذا توضع الأعمال الفلسطينية، التي قد تكون نقدية، في إطار يخفف من حمولتها لتصبح محض رواية بين الروايات الصغيرة المتعددة.
صراع وسخرية
يكتب رئيس بلدية حيفا، يونا ياهف في مقدمة قصيرة ”اسم المعرض بالعبرية ”إيريتس نهديرت“ (بلاد مدهشة) وهو أيضاً اسم برنامج تلفزيوني تهكمي يُعرض في نهاية كل أسبوع وأصبح بمثابة عبادة (!). في هذا البرنامج يعرض الواقع اليومي الإسرائيلي بشكل متطرف، عبثي، ومُسل. كما يبدو فإن التهكم والفن هما طريقتان صحيحتان لعرض الصراع الذي تدور في ظله الحياة في بلادنا...“ يستخدم رئيس بلدية حيفا كلمة ”صراع“ لوصف العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. حيفا، التي لأهلها من الفلسطينيين حصتهم من التهميش ومحاولات محو الهوية والممارسات والقوانين العنصرية. كل هذا والكثير الذي سبقه يختزل بمفردة ”صراع“ التي تمحو اختلال موازين القوة والاحتلال والنكبة.
لكن هناك ثيمة أخرى لا تقل دلالة عن استخدام كلمة ”صراع“، إنها ثيمة السخرية. ولا نتحدث هنا عن السخرية كأداة فنية نقدية تخلق مسافة بين المتلقي والعمل. كلا، فما يقصده رئيس بلدية حيفا هو شيء آخر. ما يحدث هنا، أننا في حضرة سخرية ”المهرج“ سخرية تظهر ”ديمقراطية“ المستعمر وتخلط الحابل بالنابل فيتحول الجميع إلى مجموعة من المشعوذين لو تعقلوا سيجدون السلام في هذا البلد ”المدهش، الرائع“. إنها السخرية واللطافة التي يلعب فيها الفلسطيني دور ”مهرج البلاط“.
”مورشتينو“
أما جمعية ”مورشتينو“، وتعني ”إرثنا“ بالعربية، التي أسسها ”مهاجرون“ من دول الاتحاد السوفيتي السابق فتكتب رئيسة لجنة إدارتها ألا شاينسكي، أن ”الجمعية قررت الاشتراك في هذا المعرض الذي يشارك فيه سبعة وثلاثون فناناً إسرائيلياً وفلسطينياً من الضفة الغربية ومن العرب في إسرائيل، من مسلمين ومسيحييين وأرمن ودروز...“ ليس مفاجئاً هنا أن تنفي شاينسكي عن فلسطينيي الداخل فلسطينيتهم، ولكنها تستخدم السكين الإثنو-طائفية لتقسيم الآخرالفلسطيني إلى قبائل وطوائف وكأن ما تقدم لم يكن كاف. وما يزيد الطين بله هي الصهيونية الواضحة وضوح الشمس، عندما تكتب رئيسة إدارة الجمعية ”تؤمن ”مورشتينو“ بالتعايش الإسرائيلي الفلسطيني وبحل الدولتين المستقلتين في أرض إسرائيل الانتدابية...“ إذا نحن في صدد خطاب صهيوني قد يعتقد البعض أن الدهر أكل عليه وشرب ولكن لا.. فلسطين هي ”أرض إسرائيل“ وليس إسرائيل لوحدها مثلاً.
أما في تقديم شيرلي موشولام وهي التي أعدت للمعرض فتقتبس أقوال للثائرة روزا لوكسمبورغ ومقولتها ”إن الحرية هي دوماً حرية من يفكر بشكل مختلف فقط.“ المثير في هذا الإقتباس هو عبثية السياق. أي أن روزا لوكسمبورغ والتي لقيت حتفها في عام 1919 على يد عسكريين يمينيين ألمان تُقتبس هنا، وكأن المُستعمِر الصهيوني الإسرائيلي والمستعمَر الفلسطيني يتساوايان في الظروف والمطالب والأوضاع، لمجرد اجتماعهم تحت مظلة المعرض. إن السياقات التي وضعت بها الأعمال إشكالية ناهيك عن ضرب الفنانيين الفلسطينيين عرض الحائط بحملة المقاطعة، لا يتسع المجال هنا للخوض في موضوع المقاطعة، لكن لا مناص من القول إن التواجد ضمن نشاط مولته وخططت له مؤسسات صهيونية والسماح بتجيير الفن في هذا الإطار الذي يسوق ويبسّط قضايا عميقة ومصيرية في سياق التعايش وكأنها سلع تجارية هو إشكالية بحد ذاته.